الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
قال اللّه تعالى: {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181)}.لما أوجب اللّه تعالى الوصية وجعلها حقا على المتقين، توعّد من غيّرها وبدّلها فقال: فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ أي فمن غيّر ما أوصى به الموصي بعد ما سمع الوصية فليس على الموصي إثم، بل الإثم على مبدّل الوصية، إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ أي سميع للوصية، عليم بما أوصيتم به، فلا تخفى عليه خافية من التغيير الواقع فيها، وعلى ذلك يكون المنهي عن التغيير هو: الشاهد، فلا يكتم شهادة ولا يغيّرها، والوصي فلا يغير الوصية، ولا يحوّر فيها. والورثة فلا يمنعون من أوصي لهم من حقّهم.وقيل: إنه هو الوصي، وذلك أن العرب في الجاهلية كانوا يوصون للأباعد، ويتركون ذوي القربى في ضنك وشدة، فنهاهم اللّه عن ذلك، وجعل الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف، ثم أوعد الموصين الذين يخالفون ما أمر به. ويجعلونها في غير المواضع التي أمرهم بها، أو يوصون بغير معروف، كأن يعطوا الأغنياء من أقاربهم، ويتركوا الفقراء، وعلى هذا يكون الضمير في قوله: {فَمَنْ بَدَّلَهُ} راجعا إلى الحكم الذي علم من الآية السابقة.أما على القول الأول فالضمير راجع إلى الوصية. وإنما أتى به مذكّرا والوصية مؤنثة نظرا إلى المعنى، فإنها بمعنى الإيصاء، ك قوله: {فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ} [البقرة: 275] أي وعظ، وقد دلت الآية على أن المرء لا يؤخذ بجريرة غيره. فالميت لا يؤخذ ببكاء أهله إلا أن يكون له دخل في البكاء، كأن يكون أوصى به.ولذلك لا يعذّب الميت إذا أوصى ورثته بقضاء دينه، فقصّروا في القضاء، وهي في معنى: {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى} [الأنعام: 164] {مَنْ عَمِلَ صالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها} [فصلت: 46] {لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286].هذا وقد طعن قوم في أحكام الوصية والميراث في الشريعة الإسلامية. وقالوا:إنها لا تلين لرغبات المالكين، وقد تكون هذه الرغبات محترمة أما أنها لا تلين لرغبات المالكين فلأن الميراث قد فرضت فروضه، وعيّنت أنصباؤه، وليس لأحد أن يغيّر فيها، وقد منعت الوصية للوارث، فليس لأحد أن يوصي لوارثه.وأما أن رغبة المالكين قد تكون محترمة فلأنه ربما أراد أن يوصي لوارث فيزيد نصيبه، لأنه يراه أبرّ به من غيره، أو لأنه أحوج، قالوا: والشريعة الإسلامية قد خالفت ما عند الأمم الأخرى من احترام رغبات المالكين. وقد تذرّعت أمة إسلامية بذلك فتركت أحكام الشريعة في الميراث والوصايا، واستبدلت بها القانون السويسري.ونحن نرى أنه لا موجب لهذه الغارة على أحكام الشريعة، فقد نقلنا ما رواه الفخر الرازي من رأي أبي مسلم الأصفهاني في الوصية، وقد علمنا منه أن رأيه أن الوصية للوارث باقية لم تنسخ، ولا منافاة بينها وبين الميراث.فالميراث عطية من اللّه، والوصية عطية من المالك للوارث، فإذا كانت هذه الأمة قد اضطرت لاحترام إرادة المالكين، ولم تبال بما يصحبها من جور غالبا.ففي الشريعة الإسلامية متسع لهذا. فلنا الأخذ برأي أبي مسلم الأصفهاني في الوصية وهو يجيز الوصية للوارث، ويحترم رغبة المالكين. فمن شاء أن يوصي لابن بار، أو وارث أشد حاجة: فله ذلك عنده. وما دام في الشريعة غنى، فليس لهم أن يستبدلوا بها قانونا آخر. وإن الأخذ بقول من أقوالها مهما كان ضعيفا خير من الخروج عنها جملة.قال اللّه تعالى: {فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)}.الجنف: الميل في الأمور، وأصله العدول عن الاستواء. والفرق بين الجنف والإثم هنا: أن الجنف الخطأ في الوصية من حيث لا يعلم، والإثم الجور عن عمد.وقد اختلف في تأويل الآية. فقال بعضهم: إن معنى خافَ هنا علم، ولما توعّد اللّه من غيّر الوصية بيّن أن هذا الوعيد لمن غيّرها جورا.أما من علم من الموصي الجور فلا إثم عليه في تغييرها إلى عدل وصلح، فبيّن الفرق بين التبديلين. فأوجب الإثم في الأول. ونفاه عن الثاني.وقال بعضهم: إن خافَ هنا على معناها، والمراد: أن من حضر الموصي وهو يوصي فخاف منه الخطأ في وصيته، أو تعمّد الجور فيها فلا حرج عليه أن يصلح بين الموصي وبين ورثته: بأن يأمره بالعدل في وصيته. فلا يتعمد إضرار الورثة. ولا يحرم مستحقا، ويعطي غير مستحق: يفعل ذلك مشورة وإصلاحا، والضمير في قوله: {بَيْنَهُمْ} يعود على الموصى لهم، وهم وإن كانوا لم يذكروا، إلا أنهم علموا من قوله: مُوصٍ لأنّه يستلزم موصى لهم.فإن قيل: هذا المصلح قد أتى بطاعة بإصلاحه يستحق عليها الثواب الجزيل. وكان المنتظر أن يقال: فله أجر. فكيف قيل: {فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} وقيل: {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}؟فالجواب: أنه لما كان تبديلا، وقد أثّم اللّه المبدّلين، أراد أن يبين مخالفته للأول برفع الإثم عنه، لأنه ردّ الوصية إلى العدل.وأما قوله: {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فإنه من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى، كأنه قال: أنا الغفور الرحيم لمن أذنب وعصى فلأن أوصل الرحمة والمغفرة لهذا المصلح أولى.أو يقال: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ لهذا الوصي الذي أوصى بما فيه جنف أو إثم إذا أصلحت وصيته. وهذه الآية تدل على جواز الصلح بين المتنازعين.قال اللّه تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184)}.الصِّيامُ: مصدر صام. كالقيام مصدر قام، وهو في اللغة: الإمساك عن الشيء، والترك له، ومنه قيل للصمت: صوم، لأنه إمساك عن الكلام، قال تعالى في قصة مريم {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} [مريم: 26] ومنه قولهم: صامت الريح، إذا ركدت وسكنت، وصامت الفرس، إذا أمسكت عن العلف، قال النابغة:
وفي الشرع: هو الإمساك عن شهوتي البطن والفرج، بنيّة من أهله من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.{كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} قيل: إن وجه الشبه هو وجوب الصوم، وقيل: مقداره، وقيل: كيفيته. من الكف عن الأكل والشرب، وقد ذكر القائلون بالأخيرين روايات تؤيد ما ذهبوا إليه، منها أنه كان المفروض على اليهود والنصارى صوم شهر رمضان هذا، الذي كلّف اللّه المسلمين بصومه، وزعموا أن اليهود تركت هذا الشهر إلى صوم يوم زعموا أنه الذي غرق فيه فرعون.أما النصارى فقد صادفوا في رمضان حرّا شديدا، فحولوه إلى وقت لا يكون حرّا، ثم قالوا عند التحويل: نزيد فيه عشرا، ثم اشتكى ملكهم فزادوا سبعا، ثم اشتكى الملك الذي بعده فقال: ما بال هذه الثلاثة فتمّ لهم صوم خمسين يوما، وهناك روايات غير هذه، كلّها تفتقر إلى الإثبات وعلم حقيقة ما كتب على الذين من قبلنا، وما دام التشبيه لا يحتاج لأكثر من وجه من وجوه المماثلة، ونحن نقطع بأن من كان قبلنا قد أوجب اللّه عليهم الصيام، فما حاجتنا بالجري وراء أخبار تحتاج في إثباتها إلى عناء وجهد قد لا تصل بعدهما إلى ما يثبت المدعى؟نحن لا ننكر هذه الأخبار، أو ما اشتملت عليه، بل نقول: إنها تفتقر إلى الإثبات، وفهم الآية غير متوقّف عليها، إذ يكفي في فهم الآية أن يكون اللّه قد كتب صوما ما على الذين من قبلنا، وتلك حقيقة يسلّم بها جميع أهل الأديان، وهم يتعبدون بها إلى اليوم، والمطّلعون على التاريخ القديم يقولون: إن التاريخ يدل على أنه لم تخل شريعة من الشرائع من فرض الصوم، وإنما اختلف الصوم في الأمم السابقة في ماهيته، وكيفيته، ومقداره، وما دام اللّه لم يبين لنا ماهية الصوم عند الذين من قبلنا وكيفيته ومقداره فما حاجتنا إلى البحث وراءه، ولو علم اللّه في بيانه خيرا لبينه؟قال الزجاج: إن كَما هنا في موضع نصب على المصدر، والمعنى: فرض عليكم الصيام كفرضه على الذين من قبلكم. وقال أبو علي: هو صفة لمصدر محذوف، أي كتابته مثل كتابته على الذين من قبلكم. وقيل: غير هذا.{لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} ذكروا في معناها في هذا الموضع وجوها:أحدها: أن الصوم يورث التقوى، لأنه يكسر الشهوة، ويقمع الهوى، ويردع عن الأشر والبطر والفواحش، ويهوّن لذات الدنيا.الثاني: أن المعنى: ينبغي لكم بالصوم أن يقوى رجاؤكم في التقوى.الثالث: أن المعنى: لعلكم تتقون اللّه بصومكم وترككم للشهوات، وأنت ترى أن المعاني متقاربة.{أَيَّامًا مَعْدُوداتٍ} منصوب على الظرفية، وقيل: غير هذا، وقد اختلف العلماء في هذه الأيام: أهي رمضان أم غيره؟ قيل: إنها غير رمضان، وأنه كان قد وجب صوم قبل رمضان، ثم نسخ بآية: {شَهْرُ رَمَضانَ} إلى قوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] وهو مذهب معاذ. وقتادة. وعطاء. ومرويّ عن ابن عباس، ثم اختلف هؤلاء، فقال عطاء: هي ثلاثة أيام من كل شهر، وقال قتادة: بل هي ثلاثة أيام من كل شهر وصوم يوم عاشوراء.ثم إن هؤلاء اختلفوا أيضا. فقال بعضهم: إن هذا الصوم كان تطوعا، وقال بعضهم: بل واجبا، واتفقوا على أن هذا الصوم- على الخلاف في أنه تطوع أو فرض. وعلى الخلاف في مقداره- منسوخ بصوم رمضان، واستدلوا على صحة ما ذهبوا إليه بوجوه:الأول: ما روي عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم: «أنّ صوم رمضان نسخ كلّ صوم».فدل هذا على أن صوما كان قبل رمضان ونسخ به.الثاني: أن اللّه تعالى ذكر حكم المريض والمسافر هنا وذكره في آية: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} فلو لم تكن الآية الأولى منسوخة بالثانية لكان تكرارا ينزّه عنه القرآن.الثالث: أنّ قوله تعالى هنا: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ يدلّ} على أن هذا الصوم واجب على التخيير، إن شاء صام، وإن شاء أفطر، وأعطى الفدية. وصوم رمضان واجب على التعيين. فواجب أن يكون صوم هذه الأيام غير صوم رمضان. ذلك مبلغ ما قالوا في التدليل لمذهبهم.وذهب أكثر المحققين إلى أن المراد بهذه الأيام المعدودات شهر رمضان، وهو مذهب ابن عباس، والحسن، وأبي مسلم، وحاصله: أنّ اللّه سبحانه بيّن أولا أنه فرض علينا صوما كالذي فرضه على الذين من قبلنا، فاحتمل هذا أن يكون يوما، أو يومين، أو غير ذلك، فبيّنه بعض البيان بقوله: {أَيَّامًا مَعْدُوداتٍ} وكان ذلك أيضا محتملا لأن يكون فوق ثلاثة أيام إلى أكثر من شهر، فبينه اللّه تعالى بقوله: {شَهْرُ رَمَضانَ} إلخ. وإذا كان ذلك يمكننا في فهم الآية فلا وجه لحملها على غيره، وإثبات النسخ فيه، وهو فوق ذلك خارج عن مدلول اللفظ.أما ما تمسكتم به من قول النبي صلّى اللّه عليه وسلّم: «صوم رمضان نسخ كلّ صوم».فلم لا يجوز أن يراد: كلّ صوم كان في الشرائع السابقة؟ ومعروف أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد ناسخ، فليكن هو الناسخ. ولئن سلّم أن المراد كلّ صوم كان عندنا فأين انحصار أدلة الوجوب في هذه الآية؟ ولم لا يجوز أن يكون صوما قد ثبت بأدلة غير هذه؟وأما قولكم: لو كان عين شهر رمضان لكان قوله: {فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلى سَفَرٍ} إلخ مكرّرا.فلنا أن نقول: إن صوم رمضان ثبت في أول الأمر مخيّرا فيه المكلّف بين الصيام، وبين الفدية دون القضاء، فلما كان كذلك، ورخص للمسافر في الفطر، كان من الجائز أن يظنّ أن عليه الفدية دون القضاء، ويجوز أنه لا فدية عليه ولا قضاء لمكان العذر الذي يفارق به المقيم.ولما لم يكن ذلك بعيدا، بيّن اللّه تعالى أن إفطار المريض والمسافر في الحكم خلاف التخيير في حق المقيم، فإنه يجب عليهما القضاء في عدة من أيام أخر، فلما نسخ اللّه ذلك عن المقيم الصحيح وألزمه بالصوم حتما، كان جائزا أن يظن أن انتقال الحكم من واسع إلى ضيق ربما يعم الكلّ فيساوي المريض والمسافر الصحيح المقيم. أو على الأقل يبقى حكم المريض والمسافر مجهولا: فكانت هناك حاجة إلى البيان، فجيء به لدفع هذه الحاجة، وحيث قد ذهبنا إلى القول بأن صوم رمضان كان في البدء مخيّرا، فلم تعد بنا حاجة إلى الاعتذار عن حجتهم الثالثة.وأنت ترى أن الآية على القولين قد دخلها النسخ: أما الأول فظاهر، وأما الثاني، فلأنّه يقضي بأن صوم رمضان ثبت في البدء مخيّرا، ثم نسخ بالتعيين، ولعل الحكمة في شرعه هكذا سنة التدرج في التشريع.{فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} المراد منه واللّه أعلم أن فرض الصيام في الأيام المعدودات إنما يلزم الأصحاء المقيمين. فأما من كان مريضا أو مسافرا فله تأخير الصوم عن هذه الأيام إلى أيام أخر.وقد دلّت الآية على عظيم فضل اللّه، وسعة رحمته بعباده، فقد بيّن اللّه سبحانه في أول الآية أن شريعة الصيام فيكم لم تكن بدعا من الشرع، بل لكم فيها أسوة، فقد كانت مكتوبة على من قبلكم من الأمم، ثم بيّن فيها ثانيا: وجه الحكمة في إيجاب الصوم، وهو أنه سبب قوي في حصول التقوى، وثالثا: أنه لم يكلفنا بما يشق، بل كلفنا أياما معدودات، وهي وإن قلّت فجزاؤها جزيل، ثم بيّن جل شأنه أنه خصّ هذه الأيام بالشهر الذي أنزل فيه القرآن لمزيد الشرف ثم بين أن هذا التكليف خاصّ بمن قدر عليه، حيث أباح تأخيره لمن يشق عليه من المرضى والمسافرين إلى وقت يقدرون عليه فيه.وقد اختلفوا في المرض المبيح للفطر على ثلاثة أقوال:ذهب الحسن وابن سيرين إلى أنّ المدار على تحقق وصف المرض، فأيّ مرض وأيّ سفر بالغين ما بلغا يترخّص بهما المسافر والمريض في الفطر في رمضان، وقد روي أنّ جماعة دخلوا على ابن سيرين فوجدوه يأكل، فاعتل بوجع إصبعه.وذهب الأصم إلى أنّ المراد المريض والمسافر اللذان لا يقدران على الصوم مع المرض والسفر إلا بجهد ومشقة.وذهب أكثر الفقهاء إلى أن المرض المبيح للفطر هو الذي يؤدي إلى ضرر في النفس، أو زيادة في العلة، وهذا هو الذي يتقبله العقل بقبول حسن، فإن الحكمة التي من أجلها رخّص للمريض هي إرادة اليسر، ولا يراد اليسر إلا حيث يظنّ العسر، وإن من الأمراض ما يكون شفاؤه بالصوم، فكيف يباح الفطر لمن كان مرضه كذلك، ولم يكلفنا اللّه سبحانه إلا على حسب ما يكون في غالب الظن، فيكفي أن يظهر أن الصوم يكون سببا للمرض، أو يزيد في العلة، أما الإطلاق فيه أو التضييق فأمر يتنافى مع إرادة اليسر بالمكلفين.وكذلك اختلفوا في السفر المبيح للفطر.فقال داود الظاهري: الرخصة حاصلة في كل سفر، ولو كان فرسخا، وحجته أن الحكم علّق في الآية بكونه مسافرا، وهو مؤذن بعلية ما اشتق منه، فحيث تحقّق السفر تحقق الحكم وهو الرخصة، وقال: كل ما في الباب أنكم تروون خبرا آحاديا، وتخصيص عموم الكتاب بخبر الآحاد غير جائز.وقال الأوزاعي: السفر المبيح للفطر مسافة يوم، وذلك لأن أقل من هذا قد يتفق للمقيم، وكأنه يعتبر في المسافر عدم التمكن من الرجوع إلى أهله في اليوم.وذهب الشافعي رضي اللّه عنه إلى أن السفر المبيح مقدّر بأربعة برد، كلّ بريد أربعة فراسخ، كل فرسخ مقدّر بثلاثة أميال بميل هاشم جد النبي صلّى اللّه عليه وسلّم، وهو الذي قدر أميال البادية، كل ميل اثنا عشر ألف قدم، كل قدم ثلث خطوة، وهو مذهب مالك، وأحمد.وقال أبو حنيفة: لا يتحقق سفر يبيح الترخيص حتى يكون قدر ثلاث مراحل، قدرها أربعة وعشرون فرسخا، وهي مقدرة في كتب الحنفية بمسير ثلاثة أيام سيرا وسطا، وهو سير الإبل والأقدام في البر، وسير السفن الشراعية في البحر، ويكتفون بسير معظم اليوم، واحتج الشافعي بما رواه عن ابن عباس رضي اللّه عنهما، قال: يا أهل مكة لا تقصروا في أدنى من ثلاث برد من مكة إلى عسفان.وقد قال أهل اللغة: إن كل بريد أربعة فراسخ، فتكون ستة عشر فرسخا، وهو الذي قلنا.واحتج أبو حنيفة: بأن قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} يوجب الصوم، ولكنا تركناه في الثلاثة الأيام للإجماع على الرخصة فيها. أما فيما دونها فمختلف فيه، فوجب الصوم احتياطا.واحتجوا أيضا بقوله عليه الصلاة والسلام: «يمسح المقيم يوما وليلة، والمسافر ثلاثة أيام ولياليها».ولا يكون كذلك حتى تكون مدة السفر ثلاثة أيام، لأن الشارع جعل علّة الامتداد إلى الثلاثة السفر، والرخص لا تعلم إلا من الشرع. وأما ما رويتم عن ابن عباس فلعله مذهبه واجتهاده، ولا نترك حديث رسول اللّه إلى مذهب أحد واجتهاده.وأيضا ورد عن الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم اعتبار الثلاثة الأيام سفرا، ومن ذلك حديث ابن عمر عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم: «وأنه نهى أن تسافر المرأة ثلاثة أيام إلا مع ذي محرم».نعم قد روي عن أبي سعيد، وأبي هريرة أخبار في هذا المعنى، تفيد من منعها السفر يومين، ولكنّهما روي عنهما أيضا النهي عن سفرها ثلاثة أيام، ويوما.فلما كان هذا الاضطراب وللاحتياط في إسقاط الفرائض عوّلنا على حديث ابن عمر، لأنه متفق عليه، وروايات غيره مضطربة فتركناها، فتبين أن الثلاثة قد تعلّق بها حكم شرعي، وغيرها لم يعلّق به، فوجب تقديرها في إباحة الفطر.ثم إنّ العلماء قد اختلفوا في المسافر والمريض: ماذا يلزمهما في رمضان؟ذهب جماعة من علماء الصحابة رضوان اللّه عليهم: إلى أن الواجب عليهما الفطر وصيام عدة من أيام أخر، وهو قول ابن عباس، وابن عمر، حتى روي عنه:أن المسافر إذا صام في السفر قضى في الحضر.وذهب أكثر الفقهاء إلى أن الإفطار رخصة، فإن شاء صام وإن شاء أفطر، وحجّة الأولين ظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: «ليس من البرّ الصّيام في السّفر»، وقوله عليه الصلاة والسلام: «الصّائم في السّفر كالمفطر في الحضر».وأما الجمهور فقد قالوا: إن في الآية إضمارا تقديره: فمن كان منكم مريضا أو على سفر فأفطر، فعليه عدّة من أيام أخر، وهو نظير قوله تعالى: {فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ} [البقرة: 60] وقوله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ} إلى قوله: {أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] التقدير في الأوّل فضرب فانفجرت، والثاني فحلق ففدية.وأيضا فقد روى أبو داود في سننه عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة: أن حمزة الأسلمي سأل النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فقال: يا رسول اللّه، أفأصوم في السفر؟ فقال عليه الصلاة والسلام: «صم إن شئت، وأفطر إن شئت».وقد ثبت عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بالخبر المستفيض أنه صام في السفر رواه ابن عباس، وأبو سعيد الخدري، وأنس بن مالك، وجابر بن عبد اللّه، وأبو الدرداء، وسلمة بن المحنّف.وأما ما روي من قوله: «ليس من البرّ الصّيام في السّفر».فإنّه كلام خرج على حال مخصوصة، وذلك ما رواه شعبة من حديث جابر بن عبد اللّه عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه رأى رجلا يظلّل عليه والزّحام عليه شديد، فقال: «ليس من البر الصيام في السفر».فمن سمع وذكر الحديث ذكره مع سببه، وبعضهم اقتصر على ذكر الحديث.وقد ذكر أبو سعيد الخدري في حديثه أنهم صاموا مع النبي صلّى اللّه عليه وسلّم عام الفتح في رمضان، ثم إنه قال لهم: «إنّكم قد دنوتم من عدوّكم، والفطر أقوى لكم فأفطروا».فكانت عزيمة من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال أبو سعيد: ثم لقد رأيتني أصوم مع النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قبل ذلك وبعد ذلك، وأما حديث: «الصّائم في السّفر كالمفطر في الحضر».فحديث مقطوع لا يثبت عند كثير من الناس.والحنفية بعد ذلك يرون الصوم أفضل من الفطر. ويقول المالكية كذلك لمن قوي عليه.{فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} أي من كان منكم مريضا أو مسافرا فأفطر فعليه صيام أيام أخر بعد ما أفطر، وهذا تأويل الجمهور، فكان المريض والمسافر عندهم واجبه الأصليّ الصوم، ويرخّص له في الفطر، فإذا أفطر فليقض أياما مكان الأيام التي أفطر فيها.وأما غير الجمهور فتأويل الآية عندهم: فمن كان مريضا أو مسافرا فليفطر، والواجب عليه ابتداء صوم أيام أخر، وصيامه في رمضان لا يعتدّ به.وأنت بعد الذي بينا من أدلة الطرفين إذا رجعت إلى النظم الكريم وجدت أنّ النظم قد شمل الخطاب فيه جميع المؤمنين {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ} ثم لمّا كان بعض الناس قد يكون له من العذر ما يقتضي التخفيف بيّن اللّه حال المعذورين بقوله: {فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وقال: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ على ما يأتي بيانه بعد، ثم قال: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ}.فهل تجد بعد هذا مسوّغا لأن تفهم من الآية أنّ الفطر واجب على من لا يضره الصوم من أصحاب الرّخص؟ ثم انظر إلى قوله تعالى في الآية التي بعد هذه: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] فإنّك لابد فاهم منها أن الواجب الأصليّ على الناس جميعا في رمضان هو الصوم، وأن التأخر عنه ترخيص.فهل إذا التزم العبد أن يقوم بما هو أشق عليه ولا يضرّه تحصيلا للثواب الكثير فنقول له: إن هذا لا يجزيك؟ ما نظن.{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} ظاهر العبارة يفيد أنّ القادر على الصوم له أن يترك الصوم إلى الفدية ولا يلزمه القضاء. وقد تقدّم القول بأنّ بعض العلماء يرى أن هذه الآية من أولها منسوخة لهذا ولغيره، وبعضهم يرى أنه لا نسخ إلا في هذا الجزء، ويرى أن صوم رمضان كان قد شرع ابتداء على التخيير، ثم نسخ بقوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وهذا كله على قراءة يُطِيقُونَهُ مضارع من الإطاقة. وسنعود إليها بعد الكلام على القراءات الأخرى. فقد قرئ: {يُطِيقُونَهُ} بتشديد الياء بعد الطاء.وقرئ يطوقونه بالواو بدل الياء، ومعناه: يجشّمونه، أي: يتحمّلونه بمشقة، وقالوا: المراد بهم الشيخ والشيخة الفانيان يفطران ويفديان ولا يقضيان.والآية على هاتين القراءتين لا نسخ فيها أصلا فالناس ثلاثة أحوال:1- الأصحاء المقيمون، ويلزمهم الصوم عينا في رمضان.2- والمرضى والمسافرون، ولهم الفطر إن أرادوا، وعليهم إن أفطروا أيام أخر.3- وقوم لا يقدرون على الصوم، وفيه ضرر، فهؤلاء يفدون.ولنرجع إلى القراءة الأولى {يُطِيقُونَهُ} لما كان الظاهر منها ما ذكرنا. قال بعض المفسرين: إن الآية على إضمار حرف النفي، وتقديره- واللّه أعلم- وعلى الذين لا يطيقونه فدية، وتكون الآية حينئذ في معنى القراءتين الأخريين.ويرى بعضهم أن هذا في شأن المرضى والمسافرين فهم قسمان:القسم الأول لا يقدر على الصيام، وهذا يجب عليه الفطر والقضاء في أيام يقدر على الصوم فيها.والقسم الثاني يقدر على الصوم، فهؤلاء يرخّص لهم في الفطر لمكان السفر والمرض، وعليهم الفدية.وقال بعضهم: إنّها نزلت في حق الشيخ الفاني، وتقريره من وجهين:أحدهما: أن الوسع فوق الطاقة، فالوسع اسم للقدرة على الشيء مع السهولة، يقال: في وسع فلان أن يفعل كذا وفلان يسعه أن يفعل كذا إذا كان يقدر عليه مع السهولة. أمّا الطاقة فهي اسم للقدرة على الشيء مع الشدة والمشقة، يقال: فلان يطيق كذا، أي أنه آخر ما في طوقه وقدرته، فمعنى وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ الذين يقدرون عليه مع الشدة والمشقة، وعلى هذا فلا نسخ في الآية، وحكمها باق، قاله الفخر الرازي.الوجه الثاني: حمل هذه القراءة على القراءة الشاذّة، وهو قريب من الأوّل، وأصحاب هذا الرأي قد اختلفوا، فقال جماعة منهم السدي: إنّها في الشيخ الهرم، أي الذي لا يرجى أن يأتي عليه في عمره أيام يقدر فيها على الصوم ويطعم لكل يوم مسكينا.وقال آخرون: إنّها تتناول الشيخ الهرم والحامل والمرضع، سئل الحسن البصري عن الحامل والمرضع إذا خافتا على نفسيهما أو ولديهما، فقال: أيّ مرض أشدّ من الحمل؟ تفطر وتقضي.ثم إنهم أجمعوا على أنّ الواجب على الشيخ الهرم الفدية، أما الحامل والمرضع فقال الشافعي رضي اللّه عنه: عليهما الفدية مع القضاء. وقال أبو حنيفة: ليس عليهما إلا القضاء.وحجة الشافعية أنهما داخلان في منطوق الآية: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} لأنهما لا يطيقان فتجب عليهما الفدية.وأبو حنيفة جعلهما في حكم المريض، انظر إلى قول الحسن البصري: أي مرض أشدّ من الحمل؟ يفطران ويقضيان، ثم قال أبو حنيفة: فرق بينهما وبين الشيخ الفاني، لأنه لا يمكن إيجاب القضاء عليه، لأنه إنما سقط عنه الصوم إلى الفدية لشيخوخته وزمانته، فلن يأتي عليه يوم يكون أقدر على الصوم من أيام رمضان التي أفطر فيها.أما الحامل والمرضع فهما من أصحاب الأعذار الطارئة المنتظرة الزوال، فإن زال عذرهما فعليهما عدة من أيام أخر، وإن لم يزل كانا كالمريض الذي لم تزل علته، على أنهما لا يمكن إيجاب الفدية عليهما مع إيجاب القضاء، لأنّه يكون جمعا بين البدل والمبدل، وهو غير جائز، لأن الفدية بدل الصوم.طَعامُ مِسْكِينٍ هو نصف صاع من برّ، أو صاع من غيره عند أبي حنيفة، وليس عليه عنده غير ذلك، قال الثوري: يطعم، ولم يذكر مقدارا.وروى المزني عن إمامه الشافعي أن الفدية مدّ، وقال ربيعة ومالك: لا أرى عليه الإطعام، وإن فعل فحسن.{فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ} اختلف في تأويله، قال بعضهم: معناه من تطوّع بالزيادة على مسكين واحد فهو خير له، وقال بعضهم: من تطوّع بالزيادة في مقدار الفدية على المسكين الذي أعطاه وقال الزهري: من تطوّع بالصيام مع الفدية فهو خير له.{وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 184] قيل: إنّه خطاب مع الذين يطيقونه ولا يصومونه، أي يتحملونه بمشقة، فهو خير لهم من الفدية. وقيل: إنه خطاب مع ذوي الأعذار من المرضى والمسافرين والشيوخ الفانين. قال الفخر الرازي: هو أولى لعموم اللفظ.وقيل: آخر الآية معطوف على أوّلها، ويكون المعنى: كتب عليكم الصيام.وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون ما في الصيام من الحكم الإلهية، التي شرع من أجلها الصيام، وهي تعويد النفس الصبر والجوع، وعدم اتباع الهوى والشهوة والبرّ بالضعفاء ومواساة المحتاجين.قال اللّه تعالى: {شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضًا أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)}.الشهر: مأخوذ من الشهرة، يقال: شهر الشيء يشهر شهرة وشهرا، إذا ظهر، وسمي الشهر شهرا لشهرة أمره، وذلك أن الناس بسبب حاجتهم إلى التوقيت في العبادات والمعاملات يحتاجون إلى معرفته. وسمي الهلال شهرا لشهرته وبيانه. بل قال بعضهم: إنما سمّي الشهر شهرا باسم الهلال.رَمَضانَ هو المدة من الزمان بين شعبان وشوال، وقد قيل في سبب تسميته بذلك أقوال كثيرة، منها أنه مأخوذ من الرمض، وهو حر الحجارة من شدة حر الشمس. وكانوا: يصومون فيه. فكأن يكون قاسيا عليهم كقسوة أشعة الشمس المنعكسة عن الحجر الأبيض، وأقرب الأقوال ما قيل: إنهم لما نقلوا الأسماء عن اللغات القديمة سمّوها بحسب ما يقع لها من المناسبات التي وقعت فيها، فوافق هذا الشهر رمض الحر.{شَهْرُ رَمَضانَ} خبر لمبتدأ محذوف بدل عن الأيام المعدودة في قوله: {أَيَّامًا مَعْدُوداتٍ} وقيل: بل هو مبتدأ محذوف الخبر، كأنه قيل: شهر رمضان المكتوب عليكم صومه. وقيل غير هذا.{الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} بيان لمزية اختصاصه بالصوم فيه من بين الشهور، ومعنى أنزل القرآن فيه، وقد أنزل القرآن في غيره أيضا: أنه ابتدأ إنزاله في رمضان، والحوادث الجسام تؤرّخ وتنسب إلى أوّل أوقاتها.وقيل: إنه نزل إلى سماء الدنيا جملة واحدة في رمضان لحكمة يعلمها اللّه، ثم نزّل بعد ذلك منجّما. ولا منافاة بين إنزاله في رمضان، وإنزاله في ليلة القدر والليلة المباركة. لأنّ ليلة القدر والليلة المباركة كانتا في رمضان، وقيل: معنى {أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} أنزل في شأنه القرآن.{والْقُرْآنُ} اسم لكلام اللّه المنزل على محمد صلّى اللّه عليه وسلّم، وقد اختلف في اشتقاقه، فقيل: إنه مشتق من القراءة: بل قد جاء بمعناها، كما في قوله تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78].وقيل: من القران، لأنّ آياته قد قرن بعضها ببعض. وقيل من القرء بمعنى الجمع. وقيل غير ذلك.{هُدىً لِلنَّاسِ} هاديا لهم بما اشتمل عليه من الحكم والمواعظ التي هي شفاء ورحمة، وهو منصوب على الحال، أي: {أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} هاديا للناس إلى طريق الخير، ومبينا وكاشفا عن وجه الحق، بما اشتمل عليه من الآيات الواضحات، وفارقا بين الحق والباطل {وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ}.قد يقال: ما الحكمة في إيراد {وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ} بعد قوله: {هُدىً لِلنَّاسِ}؟وجوابه: أنه تعالى ذكر أولا أنه هدى للناس، ثم هذا الهدى نوعان: تارة يكون الهدى بينا واضحا تنساق إليه العقول انسياقا. وتارة لا يدركه إلا خواصّ الناس. ولا شك أن الأول أكثر فائدة، فكان ذكره بعد الأول للميزة الخاصة بعد الميزة العامة.وهو على هذا في منتهى البلاغة.وقيل في الجواب: إن المراد بالهدى الأول أصول الدين. والثاني فروعه.
|